تأبين حمّادي الطرودي

تأبين حمّادي الطرودي

كلمة عبد العزيز لبيب / مقبرة الجلاز/ الثلاثاء 13 أوت 2019

حمّادي الطرودي، رحمه الله، صديق كريم، صديق عزيز على الكثيرين الذين ودعوه الوداع الأخير من مقرّ إقامته بباريس ويودعونه اليوم من موطنه تونس إلى مثواه هذا (بالجلاز)، وقد أجّج رحيلُه في أولئك وفي هؤلاء اللوعة والأسى. ورغم المعرفة بمرض حمّادي المزمن، فقد نزل نبأ وفاته بين أصدقائه مثلما نزل بين أهله المقربين مفاجئا صادما، وحلّ فقدانه حلول الفاجعة غير المتوقّعة لأن شخصه الكريم الأبيّ وسيرته أثناء مواجهة المرض كانا يجسمان الأملَ في الحياة نفسَه.
الكثيرون من أصدقائه، ومنهم المتحدّث باسمهم، عرفوه وعرفهم، عاشروه وعاشرهم، منذ منتصف سبعينات القرن الماضي. وبالطبع، منهم من تعود معرفته وصداقته به إلى فترة أسبق. عرفنا في حمادي الصديق الودود والمؤنس الذي يفرح لفرح أصدقائه ويتأسى لأساهم. يقترب منهم ويحاذيهم أشد المحاذاة بلا عسف ولا تعدّ. كان يعرف المشيَ على الحدود المُشوَّشة. فكان يحفظ سر الصديق حتى بين الأصدقاء المقربين والحميمين. لذلك أحبه من عرفه، فكانت له صداقات كثيرة عميقة بلا تكّلف؛ ودام أغلبها، هذا إنْ لم تدم كلها بلا استثناء؛ فلم نسمع عنه إلا خيرا منذ ما يقارب الخمسين سنة. كان بشوشا عندما يستقبل أصدقاءه لا تفارق الابتسامة محياه حتى لما يأتيه الزائر على حين غِرّة. وكان كريما جاعلا من حسن الضيافة أخلاقا مثلما تجري به تقاليدنا القديمة. وكان يُعِدُّ أمرَها بنفسه بل ويجعل منها فنّا مُحَبّبا للنفس… فتعلمنا منه في هذا الشأن. وله في كل شؤون الحياة الخاصة والجماعية والعامة الحرصُ نفسه على الدقة وعلى حسن الأداء من دون أن يتيه في الدقائق والزوائد التي لا معنى لها. واقتضابا، كانت شخصية المرحوم حمادي الطرودي باعثة على الانشراح، فأكثرُ شعوره بالرضا أو بعدمه يعبر عنه بابتسامة مدهشة جامعة بين الجّد وشيء من السخرية بعوارض الحياة العابرة والتافهة.

والأرجح أن السّر في ذلك هي بساطته الذكية التي كان لها جمالها الطبيعي الخاص، ما سمح له بأن يربط وأن يميّز في نفس الوقت بين دوائر الحياة المتشعبة. ولذلك تعلمنا من مجرّد محاذاته ضربا من أخلاقية الحياة بلا تلقين ولا أوامر.
ولم تكن دائرة الحياة العامة والشأن العام غائبة من وجوده طوال حياته حتى عند الشدائد، وأشدّها ما طرأ عليه من مرض منغص للحياة. عرفناه مناضلا منذ منتصف السبعينات في مجموعة “الحقيقة” مدققا في الأشياء والكلمات ثم بعد ذلك مدافعا حصيفا عن مشروع التجمع الاشتراكي التقدمي في أواخر 1983 ومؤسسا من مؤسسي فرعه بباريس في بداية 1984. وعرفناه أيضا مؤسسا لجمعية التونسيين بفرنسا (ATF) ثم للجمعية الديموقراطية للتونسيين بفرنسا (ADTF). وفي مبادئه التي يشترك فيها مع أصدقائه ورفاقه لم يكن متصلبا متعلقا بحَرْفيَّتها وإنما كانت المبادئ في عينه روحا ومثلا أعلى لأجل الفهم وكسب المعنى وإجراء التقييم. فكان يقدّر حقَ قدرها إكراهاتِ الواقع في النضال السياسي والاجتماعي والجمعياتي. وفي أثناء الأحداث الثورية في تونس وبعد الثورة، بادر، رغم أثر المرض فيه، بادر معية أصدقائه ورفاقه بتأسيس “مجالس الهجرة العامة” وبإقامة “سجلات المطالب والدعاوي” التي أُرسِلت إلي الحكومة آنذاك.

كان الراحل إنسانويّا بامتياز؛ والمقصود بذلك أنه لا يختزل الحياة في إحدى دوائرها، فانتصاره لأفكار أو لرؤى أو لمواقف سياسية وحتى حزبية لا يغمط دوائر الحياة الأخرى الفسيحة. والعكس بالعكس، فإن لم يستسغ سلوك شخص لا ينقل ذلك إلى دوائر السياسة أو المهنة، وما إلى ذلك. كان يميز بين ضروب الألفة ويحترم كل واحدة على حدة. ولذا لم يخسر صديقا مهما فرّقت بينهما المواقفُ السياسية وما يحفّ بها من شوائب. لذلك أحبه أصدقاؤه لتلقائيته. وكان اشتراكيا في الصميم وظل كذلك، بما لكلمة اشتراكية من معنى النبل والعطاء رغم ما فعل بها الزمان حتى صارت من تُحف الماضي. وحتى عندما تنكسر المبادئ على صخرة الواقع المتحّول بقوة جارفة ظل وفيّا لها، لا من باب العناد وإنما من باب احترام المبدأ الأخلاقي الذي لا يقبل المجاوزة. فما يتعذر على اليد أن تفعله وعلى اللسان أن يقوله ، يحفظه القلب على الأقل.
ذلك هو بالتلخيص ملمح الرجل العزيز الذي فارقنا. لم نزد شيئا سوى العبارة؛ ولكن غفلنا عن الكثير من مزاياه وخصاله.
فليرعه الله بواسع رحمته وليرقد في مثواه بسلام.

الجلاز 13/08/2019

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

%d blogueurs aiment cette page :