أبهظ الأثمان في الحنين إلى الأوطان

أبهظ الأثمان في الحنين إلى الأوطان

ويا وطني لـقـيتـك بعد يأس كأنّي قد لقيت بك الشبابا

أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا

ما هو مفهوم الحنين إلى الأوطان اليوم؟ وهل مازالت سوقه مزدهرة مثلما كانت عليه أيّامَ كان العرب يعدّون حبّ الوطن من الإيمان، أم هل التحقت بها زوبعة العولمة وجعلت منها قيمة مادّية تخضع للمضاربة والمقايضة؟ إذا كان الأمر كذلك، فإنّ أسهمَ سوق الحنين إلى الأوطان ما انفكّت في ارتفاع، وماانفكّ ثمنها يبهظ عاما بعد عام، بل صيفا بعد صيف تحديدا. ففي هذا الفصل، فتى الفصول، تفتح تونس كلّ بوّابتها لاستقبال أبنائها العاملين والمقيمين بالخارج، وما عليهم إلّا أن يسدّدوا ضريبة الحنين إلى الأوطان حسب ما يُمليه السادة المشرفون على الديوانة التونسيّة، عكسا وظلما… ونقدا…

العكس والظلم قد نختلف بشأنهما، خاصة بين العامل المهاجر، وهو الموسوم بالوصوليّة وبالنعمة الحديثة، وبين عون الديوانة المحتمي بالقانون وبامتيازات القانون. فما يراه الأوّل ظلما لا يرى فيه الثاني سوى واجبا لا مفرّ من القيام به، وقسً على ذلك في ما يخصّ العكس والعوج. أمّا في ما يخصّ النقد فلا مجال للاختلاف. النقد نقدٌ في كلّ المجتمعات والأعراف، والأورو أورو والدينار دينار، وهو ما يتّفق حوله المهاجر والديواني. ويقتضي الاتفاق بينهما بأن ينتقل النقد من يد إلى يد، في اتّجاه واحد، من العائد المصاب بالحنين إلى الوطن نحو حارس بوّابة الوطن. هذا « يمشّي حويجة » وذاك يتغاضى، أو يتظاهر بالتغاضي، عن تطبيق بعضٍ أو كلٍّ من إجراءات المراقبة والتفتيش. ونحن نعلم أنّ القانون يسمح باختصار هذه الإجراءات أو إطالتها حسب الحاجة، وحسب مدى استعداد المهاجر للفرح بالديواني. ففي تونس، من بين كلّ بلدان الكون، ترى وتسمع الديواني يستقبل المسافر بعبارة « هيّا افرح بيَ عاد ». وهذه العبارة، بما توحي به من فرح، ترتقي إلى مستوى الاستعارة الأدبيّة، وليس من المبالغة في شيء عدُّها في باب تحسين القبيح، ونسبتُها إلى نبوغ العقل في تونس وقدرة أهلها على التصرّف في فنون الكلام. فكلمة « رشوة » قبيحة في كلّ اللغات وعند كلّ الشعوب، لا تُستعمل إلّا سلبا وذمّا. فأيّ شيء أحسن من الفرح لتُصبح مقبولة ومهضومة أمام الملأ، حتّى لَتسمعُ الديوانيّ في تونس يردّد على مدى ساعات عمله « هيّا افرح بيَ عاد » بدون أن يستحيَ من ذلك أحد، وبدون أن يستنكرَه مسؤولǃ على هذا جرت العادة، في ميناء حلق الوادي على الأقلّ، بين العمّال المهاجرين التونسيّين وديوانتهم. وسار هذا الأمر في الناس، وتفشّى بينهم حتّى استوعبوه ودأبوا عليه، وحتّى صار العائد إلى أرض الوطن، من تلقاء نفسه، يقدّم جواز سفره ملغّما بالأوراق النقديّة، من العشرين أورو فما فوق، حسب امتلاء السيّارة وجشع الديواني، بدون أن ننسى الحمّال طبعا. تلك هي القاعدة. إلاّ أنّها، ككلّ قاعدة، لها استثناؤها، ويتمثّل أساسا في قلّة من المسافرين متمسّكين بمبدأ « فرنك لا »، شأن كاتب هده السطور، مهما استغرقت الإجراءات ومهما عكس الديواني وهمزه الحمّال. آخر الأمر ينتهي كلُّ شيء، وننسى كلَّ شيء ما إن نلتحق بديارنا وذوينا… وإلى الامتحان المقبل، في الصيف المقبل، مع ديوانتنا الموقّرة…

* بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وأهلي وإن ضنّوا عليَّ كرامُ

مضت اليوم أكثر من أربعين سنة وأنا أقاسي من همّ الديوانة التونسيّة مع كلّ عودة. فهل هذا كافٍ يا حضرات الأعوان؟ هل سأنعم معكم أخيرا بالتقاعد الديواني وأرتاح من « افرح بيَ » ومن « اخدم روحك »؟ ثمّة حتّى من قال لي يوما « كحّ تصحّ »… فمتى؟ متى سنرى الفرج؟ متى سنرى الديواني في تونس منضبطا في عمله، ضحوكا، بشوشا، في خدمة المسافر، يرشده، ويخدمه، ويساعده، ويسايره، ويفتح أمامه الأبواب عوضا عن سدّها في وجهه؟ هل سيمدّ الله في أنفاسي حتّى أرى ذلك قبل السفر الأخير؟

أضغاث أحلام، وأوهام مواطن محبط في وطنه، وفي ثورته، وإيمانه بشعبه… فمعاملات الديوانة لا يكفي أنّها لا تنحو هذا المنحى، بل إنّها تتّخذ عكسه تماما، وهو ما ضاعف من « افرح بيَ »، حتّى صرنا نسمعها عند عودتنا إلى الوطن… وعند مغادرته…

الخميس، السابع عشر من سبتمبر، سنة خمسَ عشرَ وألفين. الباخرة التي ستبحر نحو مدينة جنوة الإيطاليّة ستقلع على العاشرة ليلا. وصلت إلى ميناء حلق الوادي قبيل الخامسة مساء. تخلّصت من إجراءات شركة السفر وإجراءات الشرطة في أقلّ من ساعة. لم يبق لي إلاّ مواجهة إجراءات الديوانة قبل أن أمتطيَ الباخرة وأنعم بالراحة بعد أن قطعت الطريق في عزّ القائلة. أخذت مكاني بين طابور السيّارات أمامي. أعوان الديوانة يتنقّلون من سيّارة إلى سيّارة. وجاء دوري. اقترب منّي أحدهم وأمر « هيّا هبّط، هبّط ». تمالكت نفسي. « أيش نهبّط »؟ « هبّط كلّ شيء ». تمالكت نفسي مرّة أخرى، ثمّ فتحت أبواب السيّارة الخمسة وأفرغت ما بجوفها. كلّ ما عبّأته في الصباح نقضته في المساء ووضعته على الرصيف. وجاء السيّد العون. فتّش ما أراد، وراقب وعاين ما استطاع. وأبدى ملحوظاته، « الزيت برشة… هذا الكلّ كسكسيǃ البسيسة بالشكارةǃ ما ثمّش زيتون ملّاحي في فرنساǃ »… لم أنبس بكلمة. « هيّا عبّي، عبّي ». قال ذلك وانصرف. فعبّأت مرّة أخرى، بل قُل كدّست كما اتّفق، ثمّ انتظرت إشارة من الديواني… بعد أكثر من نصف ساعة انتظارا، وحسرة وانكسارا، أتتْ الإشارة واستُؤنفت الإجراءات. « أيش عندك فلوس تونس »؟ عددْت دنانيري. مائة وأربعون. « ما عندكش الحقّ تخرّجهم معاك ». ما العمل إذن؟ « استأنَّ تو نشوف ». استأنّيتُ مجدّدا، ولا داعي أن أصفَ لكم الحال التي كنت عليها. بعد عشرين دقيقة أخرى عيل صبري، فاتّجهت نحو السيّد العون الذي فتّشني وطلبت منه أن ينظرَ في شأني. « شوف مع هذاك ». أشار إلى ديوانيّ آخر واقف لوحده، مثقّلا بثلاث نجوم على كتفه الأيمن ومثلها على الأيسر. فاقتربت وحيّيت. « أيش بك »؟ أخبرته بما بي. « إيه، ممنوع تخرّج معاك فلوس تونس ». ما الحلّ، وما يقول القانون بهذا الشأن؟ « ها هيك البانكة، برّه بدّلهم ». أصابني الذهول. « نبدّلهم أوروات »ǃ لم يتوقّف عند عجبي ولا ذهولي. « بدّلهم اللي تحبّ، المهمّ ما تخرجش بهم »…

* لقد أسـمعتَ لو ناديــتَ حـيّا لكن لا حياة لمن تـنادي

ولو نارا نفختَ بها أضاءت لكن أنت تنفخ في رماد

دعونا، يا سادتي المسؤولين، نحسن بكم الظنّ، ولا تغذّوا الشعور عندنا بأنّنا ننفخ في رماد ولا حياة لمن تنادي. أجيبونا، جزاكم الله الخير، عن هذا السؤال. ما حكم الدراهم المتبقّية بحوزتنا بعد انتهاء زيارتنا لبلادنا والعودة إلى مواطن أعمالنا وإقامتنا في الخارج؟ هل يحقّ لنا أن نحتفظ معنا بمبلغ لا يتجاوز مائة دينار مثلا، أو حتّى خمسين، بدون أن نتعرّض إلى حملات منظّمة من أعوان الديوانة لافتكاكه منّا؟ إنّ الدينار التونسيّ لا يُصرف خارج تونس، فما ضرّ لو بقي معنا مثل هذا المبلغ نبدّل به أيدينا عند العودة المقبلة، خاصّة وقد « صرفقتونا » هذه السنة بضريبة جديدة تتمثّل في طابع جبائيّ قيمته ثلاثون دينارا لكلّ سيّارة؟

إذا كان هذا الأمر غيرَ ممكن في دولة القانون والحرّية التي تصوّرونها للعالم، فكيف لنا أن نصل إلى ميناء الإبحار أصفارا من كلّ دراهم تونسيّةǃ وكيف نصنع حتّى « نجيبها قدْ قدْ »، مثلما تكرّم عليّ ناصحا حضرة الديواني الذي جرّعني محنة الاجراءات؟ أفلا نحتاج أن نشتريَ شيئا أثناء الطريق، وفينا من يقطع أكثر من خمس أو ستّ مائة كيلومتر قبل أن يصلَ إلى الميناءǃ أفلا نخشى، لا قدّر الله، خللا أو عطبا تتعرّض له السيّارة ممّا يضطرّنا إلى التصليح أو « الروموركاج »ǃ ما الذي نفعله في هذه الحالة؟ هل ندفع بالعملة الأوروبّية أم نبحث عن بنك على قارعة الطريق؟ أفيدونا ودلّونا، دلّ الله حيرتكم. فما فرضه عليّ الديوانيّ بتغيير المائة وأربعين دينارا المتبقّية معي لا يفي بشيء وينفع في أقلّ من ذلك. وإليكم الدليل…

*

نقدتُ طوائفَ المستخدمينا فلم أرى فيهمُو حـرّا أمينا

فكتّاب الشَّمال همُو جميعا فلا صحبت شِمالهمُ اليمينا

ركضت نحو البنك. ومن خلال الشبّاك نظر إليّ البنكجيّ بابتسامة فيها ما فيها. من الواضح أنّه يعلم سبب مجيئي، فقد بادرني قائلا « كان ماش تبدّل فلوس يلزمك ورقة التبديل ». ورقة التبديل هي الوثيقة التي تُثبت أنّي غيّرت رسميّا عُملة أجنبيّة مقابل الدينار التونسيّ طبقا لمقتضيات القانون. هذا الصباح كانت بين يديّ، ضمن كدس من الوثائق الأخرى. تساءلت كثيرا وتردّدت كثيرا، آخذها أم أتركها؟ أخيرا دسسْتها ضمن حافظة الأوراق التي سأواجه بها السفر، ولسان حالي يقول « على ما يأتي ». وها قد أتى. ففتّشت عنها واستظهرت بها. تثبّت منها البنكجي يمنة ويسرة، وبطنا وظهرا، حتّى ارتاح لمصداقيتها. وللحظة من الزمن ظننت أنّي ارتحت لارتياحه، « ويجعل هذا حدّ البأس »…

أضغاث أحلام مرّة أخرىǃ فقد أخبرني البنكجي أنّه سيحتفظ بالوثيقة التي استظهرت بها. انفعلت، وكتمت انفعالي ما استطعت. لم أرَ وجها لاحتفاظه بها، فقد أحتاجها مرّة أخرى لأُثبتَ بها حسن نيّتي كما هي الحال الآن. فسألت عن السبب. « قانون ». ذاك كان جوابه. ألا يسمع القانون، مثلا، أن تصوّرها وتحتفظ منها بنسخة؟ لا. اكتب عليها أنّي استبدلت مبلغ مائة وأربعين دينارا، واختم عليها بختم البنك وأعدْ إليّ ورقتي. لا. قال ذلك وأحنى رأسه على هاتفه الجوّال، تاركا إيّاي عرضة للانفعال، والغيظ، والحيرة… « أيش عملت، يا ربّيǃ وأيش ماش نعمل »ǃ ركضت في الاتجاه المعاكس، نحو الديوانيّ. وبلسان متلجلج وجأش متآكل، أخبرته بما كان وصار. « ما يهمّنيش فيك، برّه أرجع لُه، تفاهم معاه كما تتفاهم… الفلوس ما تخرجهاش وهذاك هو ». لم أسمعْ كلامه هذه المرّة، ولم أعدْ إلى البنك. ما الفائدة من ذلكǃ وبمَ سيعاملني « البنكجي » التائه في بحر هاتفه الجوّال والمحتمي بكلمة « قانون »؟ فاكتفيت بالجلوس على الرصيف، حتّى أستردّ أنفاسي وأفهمَ « كوعي من بوعي ». ما العمل؟ وما الحل؟ وأيّ أمل؟ لم يتراءَ لي شيء، سوى الغيظ الذي قطّعني، والانكسار، و الخيبة، والمرارة… كانت عطلة، بحلوها ومرّها، وعكسها وكأسها، وها هي تنتهي « على نتن »… لعن الله هذه المائة وأربعين ديناراǃ لملمت نفسي وعدت إلى السيّد الديواني. نظر إليّ كأنّي اقبلت من المرّيخ، ثمّ استلذّ بسماع شكوايَ مرّة أخرى. يبدو أنّه لانَ هذه المرّة، واقترب من شيء اسمه الصواب. « هيّا أسيدي كيف ما حبّيتش تفهم أنت، ها هو آخر حلّ ». أخر حلّ، إن شاء الله على يديك نحجُّ. فما هو؟ استمعوا وعُوا، ولا تتعجّبوا. حسب نصيحة السيّد الديواني وهدْيه، يمكنني أن أتّصلَ هاتفيّا بمن شئتُ وأردت، من أقارب وأصدقاء، لأطلبَ من أحدهم الالتحاق بي إلى الميناء كيْ أودِعه دنانيري الملعونة. هذا هو أخر حلّǃ أظلمت الدنيا في عينيّ لسماعه، ولكم أن تصدّقوا أو لا تصدّقوا، بل اضحكوا إن شئتم، فقد أجهشت بالبكاء. مسافر زاده البكاء، « ويجعل هذا حدّ البأس ». فقد انتصر الباطل، وزهق الحقّ… عند هذا الحدّ حسمت أمري وطلبت من السيّد الديواني أن يعيدَ لي وثائقي. لقد عدلتُ عن السفر. سأعود من حيث أتيت، وسأتحدّث بما جرى لي مع الديوانة التونسيّة، وأقصّ على كلّ من يعترضني حكاية المائة واربعين دينارا. ولكلّ من يسألني هل هي مائة وأربعون مليونا ام دينارا، أقسم صادقا أنْ ما هي إلاّ دنانيرǃ تفرّس في الديواني مليّا، كمن يحاول أن يتبيّن مدى الجدّ في كلامي. ثمّ تركني لحيرتي وانصرف. فتبعته، وقد نزعت رداء الخوف. وما هي إلاّ أن تدخّل ديوانيّ أخر، من ذوي الثلاث نجوم أيضا، « هيّا أحاج، هيّا، ما تعطّلش روحك، برّه أقضِ شورك ربّي يوجّهك خير »…

فنزلت درجة الحرارة لهذا الكلام، وتمّ ما بقي من إجراءات… بيسرها وعسرها، وحلوها ومرّها… حتّى وجدتني أحتلّ مكاني في الباخرة… وكفى الله المسافرين العذاب…

*

أحسنْ إلى الناس تستعبِدْ قلوبهم فطالما استعبد الانسانَ إحسانُ

فأحسنوا إلينا يا سادتي المسؤولين، ولا تتركونا عرضة لتلاعب أعوان الديوانة وابتزازهم. وليكن القانون فوقنا وفصلا بيننا جميعا، مسافرين وإداريّين. التفتوا، جزاكم الله الخير، إلى هذا الإشكال وارفعوا عنّا هذا اللبس. إذا كان القانون يمنع الدينار التونسيّ من مغادرة أرض الوطن، فحسنا، ليكنْ. ماذا في هذه الحالة لو استلمت منّا الديوانة دنانيرنا، في إجراء رسميّ، ومقابل وصل رسميّ، على أن نسترجعه في العودة المقبلة بنفس الوصل؟ هل هذا صعبǃ أفيدونا… أفيدونا وارحمونا، ولا تساومونا حبّنا لوطننا… فإن كنّا أحفاد من قال : وطني لو شُغِلت بالخلد عنه لنازعتني إليه في الخلد نفسي فإنّا أيضا من سلالة القائل : ففي الأرض عن دار المذلَّة مذهبٌ وكلُّ بلادٍ أوطنت كبلادي كما إنّ البعض منّا قد يقتدي بهذا القول : وإذا الدِّيار تنكَّرت عن حالها فدع الدِّيار وأسرع التَّحويلا ليس المقام علـيك حقـاً واجباً في منزلٍ يدع العزيز ذلـيلا

عاشور بن فقيرة

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

%d blogueurs aiment cette page :